من بين أرجاء موقع تدمر البديع -وما يعج به من آثارٍ قديمة تتوهج تحت أشعة الشمس - انبثقت روائع العبارات الشعرية لوصفها، من بينها اسم: "عروس الصحراء". وقد انعكست تلك الأجواء التي تميّز هذا المكان الخالد في صورةٍ متكاملة بما يحويه من معابد مذهلة، ومقابر فريدة، وشوارع مليئة بالأعمدة الضخمة، وقوس النصر على لسان اثنين من أشهر علماء الآثار السوريين وهما: عدنان البني، وخالد الأسعد:
بين الشرق والجنوب تمتد الواحة عبر صحراء مترامية الأطراف لا تصل عيناك إلى نهايتها. ويحيط بالأطلال على مساحةٍ واسعةٍ خمسمائة ألف شجرة من شجر الزيتون، ونخيل يحمل أجود أنواع التمور، وتزينها أشجار الرمان كي تنسج حولها مشهدًا يشبه أحد أكاليل الغار.1
كانت تدمر مدينة كبيرة تقصدها القوافل و مركزًا يعج بثقافاتٍ متعددة، اذ كانت تتمتع بموقع رائع تترامى أطرافه عبر طريقٍ صحراوي يربط بين كبرى ممرات التجارة البرية، والبحرية، والنهرية التي تمتد من الصين إلى روما، ويُعرف هذا الطريق باسم طريق الحرير. شغلت هذه المدينة حلقة وصل بين امبراطوريتيين كبيرتين -وهما روما وبارثيا- لذا تجلت بها حركات التبادل الثقافي في شتى مناحي الحياة. لترى ذلك كله، ما عليك سوى إمعان النظر في فنونها المميزة، وهندستها المعمارية الأخَّاذة، ووارداتها المميزة من منسوجات صينية، وغيرها من البضائع الشرقية الفاخرة، وصور الآلهة، والنقوش التي لم تغمرها طيات الزمان باللغتين المحليتين التدمرية والآرامية، بالإضافة إلى اليونانية واللاتينية.
هذه المدينة الرائعة و المتميزة بالتنوع الثقافي لم تسلم من أذى متعصبي الدولة الإسلامية (داعش) الذين سعوا منذ عام 2015 إلى محوها من سجلات التاريخ بعملياتهم التفجيرية التي استهدفت طمس آثارها، ومن خلال عملية قتل الأسعد الوحشية، الذي راحت حياته دفاعًا عن وطنه الحبيب (اطّلع على اللقاء الذي أُجري مع ابنه وخليفته وليد الأسعد). ويرتبط تاريخ الأسعد إلى حدٍ كبير بتاريخ تدمر، هذا الأرتباط الذي يدعمه اهتمام الجماهير والدراسات العلمية التي أُجريت عقب مأساة مقتله.
المناظر الطبيعية
وتاريخ التفاعل
إنها تدمر؛ الاسم السامي الذي يُطلق على هذا المكان. وقد أُطلق عليها اسم " بالميرا " لأول مرة - في إشارةٍ إلى النخيل الضخم بواحتها - في موسوعة التاريخ الطبيعي2 التي وضعها الكاتب ورجل الدولة الروماني "بليني الأكبر" (23/24–79 م). وقد ذاع صيت تدمر بصورةٍ فعلية وسط محافل التجارة الدولية خلال الجزء الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، اذ ورد اسمها في النصوص التي وُجدت في مركز التجارة الآشوري في كولتبه في هضبة الأناضول الوسطى (في تركيا القديمة) وكذلك في مركز ماري التجاري الواقع في غرب سورية. إذ توثّق النصوص التي وُجدت بماري بشكلٍ واضح طريقًا تجاريًا يمتد على طول الصحراء السورية ويمر عبر الواحة.3
ويظهر اسم هذه المدينة أيضًا في سجلات ملك العصر الآشوري الوسيط تجلات بلاسر الأول (1114-1076 قبل الميلاد)، إذ يسجل بين سطورها مدى فخره بعبور نهر الفرات 28 مرة مُطاردًا فيها الآراميين المعروفين كذلك باسم Aḫlamū، بل و هزيمتهم "من داخل مدينة تدمر على أرض مملكة أمورو".4 وبالإضافة إلى ذلك، تربط النصوص التوراتية -التي كُتبت على الأرجح بين القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد عند بداية العصر الهلنستي- والتي تنتمي إلى عالم الأساطير، بين اسم الملك سليمان وتأسيس مدينة "تدمر في البرية".5
و توجد قصصًا أكثر خيالًا عن مدينة تدمر مؤرخة إلى القرن السادس -أي بعد بضع مئات من السنين فقط من تدمير المدينة القديمة- يذكرها كتاب تاريخ يوحنا مالالاس في أنطاكية التي تقع على مقربةٍ منها. فستجد الكاتب تارةً يصف الكنائس، وتارةً أخرى يتحدث عن الحمامات العامة في تدمر، إلا إنه أيضًا يربط بين اسم الملك سليمان وأصول تلك المدينة، التي بُنيت تكريمًا لوالده داوود، تخليدًا لذكرى مواجهته لجالوت على أراضيها.6 كما يشير مالالاس في كتاباته عن طريق الخطأ إلى الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني بوصفه إمبراطورًا فارسيًا غزا مدينة تدمر.7 أمّا الجغرافي الفارسي ابن الفقيه الذي عاش في القرن العاشر ؛ فقد ذكر مرارًا وتكرارًا أن الملك سليمان هو من بنى مدينة تدمر، ودعم قوله بصورةٍ لحطامها حملت قدرًا من الدقة: "لقد كانت تحفة معمارية، تحوي تماثيلَ عدة. ويُقال إنه [أي سُليمان] بنى هناك قصرًا ضم أجنحة، وأعمدة، وغرفًا، وأروقة ذات قناطير من بين أشياءٍ أخرى."8
اتسمت المصادر النصية الأولية لتدمر اليونانية-الرومانية بعظمتها، بالإضافة إلى غيرها من الكتابات التي عُثر عليها بشكلٍ أساسي في موقع المدينة، بل ووُجدت أيضًا بين الجاليات التدمرية ، وبين طيات الروايات التي سطرها الكتاب اليونانيون والرومان.9 وفي هذا الصدد يخبرنا بليني أن تدمر القابعة في أرجاء الصحراء السورية: "مدينة تشتهر بموقعها، وخصوبة تربتها، وجمال ينابيعها، وحقولها التي يحتضنها بحرٌ فسيحٌ من الرمال."10 وقد حرصت الدراسات الحديثة على تدقيق آرائه، حول كلٍ من البيئة الصحراوية وتدمر على حدٍ سواء باعتبارها دولةً مستقلةً "لها مصيرٌ يخصها وحدها بين إمبراطورية روما الكبرى وإمبراطورية بارثيا القوية".
خلال الآونة الأخيرة، تبين أن المناظر الطبيعية التي تحيط بهذه المدينة تمثل سهوبًا جافة متسعة، مع وجود موارد زراعية تنموا ليس فقط بسبب هطول الأمطار خلال فصل الشتاء ، بل و ترويها أيضًا مصادر المياه وبخاصة في الجزء الشمالي. وقد عززت هذه الموارد المائية الثروات التي كانت تأتي بها واحة تدمر، إذ إنها كانت تزدهر بعد أن ترويها مياه نبع أفقا الحراري الجوفي بالجهة الغربية. فقد كان هذا النبع مصدرًا للمياه الصالحة للشرب لآلاف السنين، ومن الوقت الذي نشأت فيه مجتمعات العصر الحجري الحديث في المنطقة المجاورة لها حتى يومنا هذا، ولم يجف هذا النبع سوى منذ عقودٍ قليلة.11
من الإسكندر إلى أرتبانيس
تداخلت حركة التنمية التي شهدتها تدمر وما بها من ثروات بصورةٍ كبيرة مع سياسات غرب آسيا خلال قرونٍ من التقلبات الكبرى التي تلت غزوات الإسكندر الأكبر، وما خلفته من دمار للإمبراطورية الأخمينية الفارسية في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. وقد أسس قادة الإسكندر الإمبراطورية السلوقية، التي امتدت في أوج عظمتها من وسط الأناضول إلى آسيا الوسطى، إذ تعكس المدن بهذه الأماكن وجود آثار هيلينية (يونانية) كبرى كست ملامح الفن و المجتمع المحلي . وفي هذا السياق -من القرن الثالث إلى القرن الأول قبل الميلاد- نشأت مستوطنة تنعم بالازدهار على أراضي تدمر على مقربة من حرم معبد بل. ويحمل هذا المكان آثارًا لأحد المعابد، ربما سبقته أضرحة بُنيت فيما مضى وتم تدميرها عن بكرة أبيها لوضع حجر الأساس لمعبد بل الأثري الذي بُني لاحقًا على الشاكلة نفسها.12
وفي نهاية المطاف أدت الهزائم المتعددة إلى خضوع الإمبراطورية السلوقية، إذ غزى معظم أراضيها الشرقية ميثراداتس الأول ملك بارثيا. أمّا عن ممتلكاتها الغربية فقد استولى عليها بومبيوس الكبير في عام 63 قبل الميلاد، وهو مؤسس مقاطعة سورية الرومانية، ولم يبدُ أنها شملت تدمر بين أراضيها في ذلك الوقت. ويدعم المؤرخ أبيان هذا الرأي، إذ روى بعدها بقرنين من الزمان عن محاولة غير ناجحة لمارك أنطوني بنهب المدينة التجارية في عام 41 قبل الميلاد.13
ظل الاهتمام منصباً على تدمر، واستمرت الإشارة إلى أنشطتها التجارية خلال حكم السلالة اليوليو-كلاودية (أو أسرة جوليو كلاوديان) للإمبراطورية الرومانية. بينما لا يمكن تأكيد مدى الهيمنة السياسية التي مارستها روما - التي تبعد عنها بأكثر من 3000 ميل - على تدمر خلال القرن الأول الميلادي، تُعزى أوائل حقبة انضمام المدينة إلى الإمبراطورية الرومانية إلى عهد تيبيريوس (14-37 م). ومن أبرز ما يميز هذه الفترة الزمنية هي الرحلة الاستكشافية لسورية في عام 18/19 ميلاديًا والتي قادها ابن أخيه وابنه بالتبني جرمانيكوس، الذي يبدو و كأنه قد شارك في وضع القوانين الأولى للتعريفة الجمركية هناك. إذ انعكست مشاركته هذه على النقوش الشهيرة للتعريفة الجمركية التدمرية، التي يعود تاريخها إلى عام 137 ميلاديًا (الشكل 1).14 و تم تخليد جرمانيكوس بضم تمثال له ، بالأضافة الى تماثيل تيبيريوس، وشقيقه بالتبني دروسوس ابن تيبيريوس، في معبد بل.
يذكر تاسيتوس في سجلات عام 109 ميلاديًا أن جرمانيكوس قد التقى أيضًا بالسفراء الذين أرسلهم الملك البارثي أرتابانيس في مهمة لدعم السلام. بالإضافة لما سبق، وفقًا لما تسرده نقوش تدمر، أرسل جارمنيكوس مبعوثًا من تدمر يحمل اسم ألكسندروس إلى مملكة ميسين في جنوب بلاد ما بين النهرين، وقد شكل هذا الأمر أهمية بالغة لصالح التجارة لوجود ميناءٍ حيوي يقع على الخليج الفارسي سباسينو خاراکس.15 بينما لم تُذكر تفاصيلُ أكثر حول هذا الأمر، نفهم ضمنيًا أنه لم يكن للرومان غنى عن العلاقة بين تجار تدمر وتجار بارثيا. لذا فكما أشرنا؛ تمكّنت كلٌ من تدمر وسباسينو خاراکس من العمل معًا "في ظل" حكم إمبراطوريتين من القوى المهيمنة آنذاك وهما روما وبارثيا.16
الصراع داخل المقاطعات الشرقية التابعة للامبراطورية الرومانية
كانت الأمبراطوريتيين الرومانية و البارثية في حالة صراع مستمر منذ القرن الأول و حتى أوائل القرن الثالث الميلادي. إذ تمركزت الحامية العسكرية الرومانية لأول مرة في تدمر في عهد تراجان (98–117 ميلاديًا) و خليفته هادريان (117–138 ميلاديًا)، والذي ارتبطت زيارته إلى المدينة في عام 129/130 بتغيير اسمها السابق إلى تدمر هادريانا، كما سُجل في نقوش التعريفة الجمركية. وقد ظلت الكتابات تشير إلى بالميرا الهاردينية خلال القرن الثالث.17 قضى الجنود التدمريين خدمتهم العسكرية في الجيوش الرومانية في أماكن بعيدة مثل بريطانيا، إلا إن جهودهم تركزت بصورةٍ أساسية على السيطرة على الممر التجاري لنهر الفرات.18
وقد كانت حملة تراجان الشرقية ( 115-117 م) إلى بلاد ما بين النهرين بدايةً لانطلاق حملات عدة استهدفت طيسفون، العاصمة البارثية، التي تقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة في الجانب المقابل لسلوقية. تمكّن قادة لوسيوس فيروس من فرض سيطرتهم على طيسفون لفترة وجيزة في عام 164، وبعد مرور 33 عامًا تعرضت المدينة للغزو مجددًا على يد سبتيموس سيفيروس، وقد أسفر عن ذلك استعباد شريحةٍ كبرى من السكان المحليين. في هذا الوقت، وُضعت أُسس لوجود عسكري روماني دائم في تدمر، التي أصبحت جزءًا أساسيًا من مقاطعة سورية الرومانية. وبعدها بوقتٍ قصير -على الأرجح في حقبة كركلا (211-217)- أُعلنت تدمر مستعمرة رومانية مع احتفاظ جميع سكانها الأحرار بحقوق المواطنة.19
في وقتٍ سادت فيه الاضطرابات خلال أوائل القرن الثالث؛ لاقت الإمبراطورية البارثية الضربة الأخيرة في عام 224 على يد أردشير الأول، مؤسس الأسرة الفارسية الساسانية، الأمر الذي وضع الإمبراطورية الرومانية في براثن تهديدٍ جديدٍ زاد من عدم استقرارها. وقد تلت ذلك اشتباكات وقعت في بلاد ما بين النهرين وسورية تعرّض خلالها الجانبان للخسائر. ثم أتت زيارة سيفيروس ألكسندر المحتملة إلى تدمر مصطحبًا معه جحافله الرومانية، المتجهة نحو نهر الفرات في عام 231/232، كدليلٍ على الأهمية العسكرية للمدينة.
وبعد مرور عشرين عامًا، شن شابور الأول ابن أردشير المعروف بقوته، حربًا على المقاطعات الشرقية التابعة لروما وقد خلّفت أثارًا تدميرية هائلة، وقد وصلت ذروتها عند غزو أنطاكية وأسر الإمبراطور الروماني فاليريان في عام 260 بالقرب من الحدود السورية الشمالية.20 وبعد هذا الخزي ، و تَرك سورية في حالة من الفوضى؛ نجح أذينة في فرض سيطرته على تدمر. وبوصفه حاكمًا للشرق، كان لأذينة دورٌ كبيرٌ في إجلاء جيش شابور خارج بلاد الشام، والأناضول، وبلاد ما بين النهرين. وتجدر الإشارة إلى أنه حاصر طسيفون في عام 262، كما أخذ اللقب الشرق الأوسطي "ملك الملوك"، بوصفه حاكمًا مستقلًا داخل الكيان الإمبراطوري الروماني.
وقد تعرّض أذينة "الذي اهتزت له قلوب الفرس" للاغتيال في عام 267. وبعدها تولت أرملته -زنوبيا التي التي عُرفت "بشجاعة الرجال" السلطة كوصية على عرش ابنهما وهب اللات.21 لم يقتصر طموح الملكة على حماية الحدود الشرقية فقط، بل وصل إلى تشكيل إمبراطورية تدمر التي نجحت في السيطرة على المقاطعة العربية التابعة للإمبراطورية الرومانية، و استطاعت أن تؤمّن الثروات وتحمي طرق التجارة في مصر. ويقينًا منها بأنها ستلقى عقابًا لا مفر منه من روما -والذي سرعان ما حدث فعلًا من الإمبراطور أوريليان في عام 272- حاولت زنوبيا التمسك بزمام الأمور، واعتماد ألقاب ملكية رومانية لها ولابنها سُجلت على عملات صُكت باسمهما. اصبح موتها اسطورة تاريخية ، و غَضَب اورليان المنتصر، الذي ،عندما علم في العام التالي أن سكان تدمر أعلنوا تمردهم ، عاد إلى المدينة ليُلحق بآثارها الخراب ويُنكّل بسكانها.
لم تسنح لأورليان الفرصة للإعلان عن حرب فارسية ثالثة، فقد تعرّض للطعن حتى الموت بعد سنواتٍ قليلة.22 وبالرغم من أن خلفاءه تبنوا القضية نفسها، فقد تغيّر المشهد الاقتصادي والسياسي للعالم بين روما وبلاد فارس تغيّرًا جذريًا، عندما تعرضت مدن كبرى متعددة الثقافات للدمار. و نتيجةٍ لمعاهدة سلام مبرمة بين ديوكلتيانوس والملك الفارسي نارسه في عام 299 تحول مسار الطرق التجارية الى الشمال ، ونتج عن ذلك تأسيس نصيبين (في تركيا الحديثة) كنقطة تجارية وحيدة وافقت عليها الإمبراطوريتان الرومانية والساسانية.23 في بدايات القرن الرابع، أصبحت مدينة تدمر جزءًا من النظام الدفاعي الإستراتيجي الروماني الذي تشكّل من حصونٍ امتدت عبر طريق ديوكلتيانوس، اذ تمركزت حول معسكر لقوات ديوكلتيانوس الذي ضم مجمعًا ضخمًا للحمامات مبني من الحجارة المأخوذة من المعالم الأثرية للمدينة.24
ما بعد العصور القديم
كتب العالم البيزنطي بروكوبيوس خلال القرن السادس الميلادي عن مدينة اشتُهرت باسم تدمر "مبنية في منطقة لا تجاورها مدن أخرى . أصبحت شبه مهجورة تمامًا بمرور الوقت"، مُشيداً في الوقت نفسه بالتحسينات التي أُدخلت عليها من قبل الإمبراطور جستينيان (امتدت فترة حكمه من عام 527 إلى عام 565)، الذي بنى الحصون الدفاعية ووفر الموارد المائية و القوات العسكرية لمواجهة "غزوات المسلمين".25
وفي سياقٍ متصل ذكرت روايات كتابٍ آخرين ما حدث من تدهورٍ حضري، على الرغم من أن البنايات الجديدة العائدة الى الفترة من القرن الرابع الى السادس بشتى بقاع المدينة تشهد على دخول المسيحية إلى المدينة . تحوّل معبد بل إلى كنيسة، حاملًا بين جدرانه آثارًا لرسومات، تصوّر إحداها العذراء مريم، والمسيح، وملاك (الشكل 2). وقد تكون هناك كنيسة أخرى قد شغلت الموقع المخصص لحرم معبد بعل شمين، وقد ظهرت بنايات أخرى على امتداد الشارع بأعمدته الضخمة، والممر الممتد نحو الشمال الغربي. وهناك ما يشهد على الوجود اليهودي أيضًا بالمدينة، إذ وُجدت بها نقوشٌ من الكتاب العبري المقدس وصورٌ للشمعدان.26
على الرغم من أن القرن السادس لم يشهد سوى سنوات متقطعة عمّ بها السلام، لم يتمكن الجزء الشرقي التابع للإمبراطورية الرومانية ولا الإمبراطورية الساسانية من الصمود أمام الغزوات العربية التي شهدها القرن السابع، واستسلم أهل تدمر في النهاية للغازين . وبينما كانت الجدران "الحصينة" للمدينة تثير مشاعر الخوف في قلوب الغزاة ، إلا إنهم تمكنوا من إقناع السكان بالموافقة على معاهدة سلام تتضمن الحفاظ على أشجار النخيل ومحاصيلها، وفقًا لما ذكره الحاكم المحلي.27
وعندما ضُمت تدمر إلى أراضي الدولة الأموية، التي تمركزت في سورية من منتصف القرن السابع إلى منتصف القرن الثامن، ازدهرت مجددًا كمدينة (كمدينة عربية تقليدية)، تسكنها إحدى القبائل الموالية للخليفة الأموي. بل وتحوّل شارعها بأعمدته الضخمة إلى سوق (بازار)، تُباع فيه المنتجات المحلية بدلًا من البضائع الكمالية المستوردة. أمّا عن الأماكن العامة -كالمسرح والميدان- فقد تحولت إلى مساكن، وأصبح الطريق المتقاطع المركزي بالمدينة -الذي تميّز فيما مضى بأنه رباعي الأطراف - مكانًا جديدًا يتجمع فيه الناس، كمسجدٍ جامع.28 ومع ذلك توقفت حقبة انتعاش المدنية بعد الغزو العباسي لها في عام 750، إذ انتقلت الخلافة من دمشق إلى بغداد.
لا شك أن خير شاهدٍ على صمود تدمر ودورها الحيوي في الدفاع عن الطرق الممتدة عبر الصحراء السورية هو تلك القرية الحصينة التي نشأت في حرم معبد بل والقلعة الصغيرة المهيبة العائدة إلى العصور الوسطى، والتي تضع بصمتها على المناظر الطبيعية التي تحيط بتدمر، وقد يرجع تاريخ بنائها لأول مرة إلى القرن الثالث عشر على يد الأمير الأيوبي شيركوه الثاني. و بعد غزوات و تعزيزات عديدة وقعت هذه القلعة تحت هيمنة فخر الدين من عام 1630 إلى عام 291632. في هذا السياق؛ يصف صفي الدين البغدادي -في معجم يعود للقرن الرابع عشر- الحياة في تدمر خلال هذه الآونة قائلًا: "عاش الناس بين حصونها. . . . كما ضمت أيضًا مخازن للحبوب. كان لديهم نهرٌ يروي نخيلهم وحدائقهم."30 وقد أشار الباحث السوري ابن فضل الله العمري -في كتاباته خلال القرن الخامس عشر- إلى الازدهار الذي عاشته تدمر، ذاكرًا ما بها من "حدائق شاسعة، وتجارة مزدهرة، وآثار فريدة."31
فن التفاعل
الآثار والمجتمع
للوهلة الأولى، تلتقط الصور الاستثنائية التي تعود إلى القرن التاسع عشر للفرنسي لويس فينيس أطلال مدينة تدمر كمدينة يونانية رومانية، مع صور مفصلة للمعابد الباقية وواجهاتها ذات الأعمدة وممرها الثلاثي الكبير الذي يبرز شارع الأعمدة .32 ومع ذلك، عند إمعان النظر، يتضح لنا المزيج الثقافي السلس الذي يميّز كل جانب من جوانب المدينة. هذا وقد خُصص الحرم الرئيسي في تدمر، المحاط بفناء ضخم يمكنه استيعاب جميع سكان المدينة، للإله بل، وهو لقب من بلاد وادي الرافدين مرتبط بكبير الآلهة البابلية مردوخ. ووفقًا للتلمود البابلي، يبدو أن عبادة بل بقيت في بابل حتى أواخر العصر البارثي، بالتزامن مع تعظيم الإله في تدمر.33
يتجلى عمق التفاعل الثقافي وتعقيده في تدمر في تفاصيل تصميم معبد بل الكبير وبنيته: إذ بُنيت حارته ، بتمويل جزئي من التجار التدمريين من بابل؛ وأُعلنَ مكانًا مقدسًا في عام 32 ميلاديًا في شهر أبريل – نيسان، متوافقاً مع رأس السنة البابلية؛ وتعكس عمارته الخارجية -التي تُبرز واجهة كلاسيكية- ابتكارات القرن الثاني قبل الميلاد العائدة الى المهندس المعماري الهلنستي الشهير هيرموجينيس، إلى جانب تفاصيل تعود إلى الشرق الأدنى مثل الشرفات ذات المثلثات المتدرجة (الشكل 3)؛ بالإضافة إلى تصميمٍ داخلي يتوافق مع طقوس الشرق الأدنى، ومع ذلك تجده مزودًا بسقوف فلكية بعيدة عن صور الأبراج الفلكية البابلية؛ وإفريز معماري يصور بل وهو يقاتل الإلهة البدائية تيامات، كما ورد في أسطورة الخلق البابلية (الشكل 4).34
ويجمع معبد بعل شمين الأصغر بين واجهة كلاسيكية و نوافذ تضيء الجزء الداخلي المُزين بمنحوتة الاله بعل شمين، بعل هو اله الطقس المحلي السوري-الفينيقي ، يجلس تحت الرموز الكونية.35
هذا وتقدم مجموعة الآلهة المعبودة -والتي غالبًا ما يتم التوفيق بينها بطقوس وأدوات مستمدة من تقاليد الشرق الأدنى والتقاليد اليونانية-الرومانية (الشكل 5)- دليلًا على مزيجٍ من المؤثرات التي تخللت جميع جوانب الحياة في مدينة تدمر. كما توفر صور الآلاف من مواطنيها الصفوة -المصورة على المنحوتات الجنائزية والتوابيت في المقابر الرائعة- لمحة عن جوانب أخرى من الهوية الاجتماعية، بما في ذلك الوحدات العائلية والمهن والأدوار التي كان يقوم بها الجنسان. ومن بينها صور عديدة لسيدات مزينات بالجواهر وتسريحات شعر متقنة ومغطاة بملابس على الطراز الغربي، ورؤساء أسر متكئين يرتدون رداءً رومانيًا طويلًا وسراويل إيرانية مطرزة، وكهنة يرتدون قبعات عالية مميزة.
وعلى الرغم من أن النحاتين قاموا في بعض الأحيان بتضمين إيماءات ومخططات تركيبية غربية ، إلا إن المنظر الأمامي والرسومات النمطية والشامخة إلى حد ما لهذه الأشكال تمثل نهجًا ذا طابع شرقي. وهكذا يقدم فن تدمر تناقضًا صارخًا مع النمط الطبيعي للمنحوتات اليونانية - الرومانية، وأحد نماذج هذه التناقضات هو تمثال أثينا العملاقة من معبد اللات، والذي ي شترك في بعض سمات آلهة الشرق الأدنى. ونجا هذا التمثال من الأضرار التي وقعت خلال الاستيطان المسيحي المبكر الذي كان يهدف لمحو الماضي الوثني، إلا إنه قُطّع مؤخرًا إلى أجزاء على أيادي متعصبي تنظيم داعش (الشكل 6).
تجارة القوافل و
اتصالات تدمر مع الشرق
تظهر صور نادرة لرجال مع جمال وسفن (الأشكال 7، و8) على منحوتات تدمر الجنائزية، في إشارة إلى دورهم في تجارة القوافل والتجارة البحرية المربحة ، مما دفع أحد العلماء إلى تسمية المدينة بأسلوب شعري باسم "بندقية الصحراء".36 في حين أن روايات القرن الأول قبل الميلاد/بعد الميلاد التي تتحدث عن الطرق البحرية والبرية ذات المسافات الطويلة - المحطات البارثية التي كتبها إيزيدور خاراكس وسجل الرحمانية الخاص ببحر إريترا-لا تذكر مدينة تدمر، إلا إنها تقدم دليلًا على الطرق البحرية من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي وطرق القوافل البرية من سورية إلى الهند.
وفي ذلك الوقت تقريبًا، حدد بليني موقع مدينة تدمر على مسافة 337 ميلًا رومانيًا من مدينة سلوقية الواقعة على ضفاف نهر دجلة، والتي وفرت مع نهر الفرات إمكانية الوصول إلى الخليج العربي والمحيط الهندي. يصف أبيان، في روايته التي تتحدث عن غارة مارك أنطوني عام 41 قبل الميلاد، سكان مدينة تدمر بأنهم "تجار" يجلبون "منتجات الهند والجزيرة العربية [من بلاد فارس] ويبيعونها في الأراضي الرومانية".37
هذا وتوفر الكتابات مزيدًا من التفاصيل، بما في ذلك أدلة على مجتمعات تجار تدمريين والسكان المحليين الأثرياء الذين يدعمون تجارة القوافل في فولوغيسية البارثية، وعلى نهر الفرات، وفي سباسينو خاراکس.38 كما أبحر التجار التدمريين أيضًا من الساحل الهندي الشمال الغربي وإليه -كما قيل إن الرسول توماس (توما) قد أبحر، وفقًا لـ "ترنيمة اللؤلؤة"- في القرن الأول من مدينة خاراکس (مملكة ميسين)، "مكان اجتماع تجار الشرق."39
هذا ويعتقد العلماء بناءً على هذه الأدلة، أن التجار سافروا من مدينة تدمر عن طريق قوافل الجمال عبر بادية الشام، ووصلوا إلى نهر الفرات على الأرجح بالقرب من بلدة هيت في بلاد ما بين النهرين. ومع ذلك، لم يستمروا في البر نحو الشرق، بل كانوا يطوفون في اتجاه مجرى النهر إلى الموانئ المتصلة بالشبكة البحرية الهندية، باستخدام الطريق نفسه للعودة.40 وتم تسهيل المرور من الهند وإليها من خلال اكتشاف الرياح الموسمية، مما سمح بسهولة التنقل شرقًا من يونيو - حزيران إلى أكتوبر – تشرين الأول وغربًا من نوفمبر – تشرين الثاني إلى مايو - أيار.41
كان نقل البضائع والحيوانات والأشخاص على طول نهر الفرات على أطواف خشبية مدعومة بجلود حيوانات منتفخة (الكَلَك) ممارسة قديمة، كما هو موضح في منحوتات القصر الآشوري من القرن الثامن إلى القرن السابع قبل الميلاد. استمرت وسائل النقل هذه حتى القرن التاسع عشر، وتم توثيقها جنبًا إلى جنب مع منحوتات القصر في الرسومات التي رسمها فيكتور بليس في مجلده نينوى و أشور (1867).42 ويصف المؤرخ اليوناني هيرودوتوس من القرن الخامس قبل الميلاد، في مناقشته لبابل، مثل هذه المركبات النهرية التي يمكنها أن تحمل ما يصل إلى 5000 طالن (أكثر من 130,000 كيلوجرام) من البضائع والدواب، لكن هذه تجمع عناصر من الطوافات المصنوعة من جلد الحيوانات التقليدية وزورق القرقل ذي إطارات خشبية (القفة) مغطاة بالجلود.43
هذا ولقد جلبت تجارة الخليج والمحيط الهندي الرفاهية إلى الإمبراطورية الرومانية عبر طريق الفرات وأيضًا عبر طريق البحر الأحمر، مع نشاط تجار تدمر في مصر أيضًا. تتجلى مشاركة مدينة تدمر في هذه التجارة من خلال الاكتشاف في مقابرها للؤلؤ من الخليج وكذلك قطع المنسوجات الحريرية من سلالة هان الصينية وخيوط الحرير المستخدمة للحياكة المحلية، والتي يحملها وسطاء من الصين إلى موانئ شمال غرب الهند. وهنا، يمكن للتجار أيضًا التقاط أشياء غريبة يرغب الجميع في الحصول عليها مثل العاج والخرز المصنوع من العقيق والكرنيل، وكذلك القطن والتوابل والنباتات الطبية.44
الإرث: تدمر في
المخيلة المحلية
استحوذت مدينة تدمر، بأطلالها المهيبة والضخمة وملكتها الأسطورية زنوبيا، على الخيال الشعبي في كل من العالم العربي والغربي. تم التعبير عن جوانب الاهتمام والمواقف الكلاسيكية الجديدة في الفن تجاه الموقع في مجلد فوليو الجميل الذي يعود إلى القرن الثامن عشر بعنوان أطلال تدمر للباحث البريطاني روبرت وود. وفي "ملاحظاته للقارئ"، يعبر المؤلف عن هدفه "لإنقاذ روعة تدمر من الاندثار"، مع الإقرار بأنه وفريقه "حملوا القطع الرخامية حيثما كان ذلك ممكنًا"، وهي ممارسة تم اتباعها في منتصف القرن العشرين إلى أواخره، مما أدى إلى سن قوانين الآثار لحماية التراث الثقافي.45
تم تسليط الضوء على الرسومات الرائعة التي رسمها المهندس المعماري الفرنسي لويس فرانسوا كاساس، والتي نُشرت بعد عدة عقود، في تراث تدمر القديمة إلى جانب الصور الأولى لمدينة تدمر، التي التقطها لويس فيجن عام 1864. كما قدم مسافرون أجانب آخرون روايات حية عن الموقع. ومن أشهرهم الكاتبة الإنجليزية والمسؤولة السياسية وعالمة الآثار جيرترود بيل، التي أشارت في عام 1900، عند أول لمحة لها على الأطلال، حيث أقامت مخيم بين السكان المحليين:
إنني أتساءل عما إذا كان العالم الواسع يقدم منظرًا طبيعيًا أكثر تفردًا. إنها مجموعة من الأعمدة، تمتد عبر طرقٍ طويلة، مجمعة في صورة معابد، أو ممددة على الرمال أو تشير بإصبع واحدة طويلة وحيدة إلى السماء. وخلفها يوجد معبد بعل [بل] الكبير؛ وتم بناء المدينة الحديثة بداخله وترتفع صفوف أعمدته على كتلة من الأسطح الطينية. وكل ما وراء ذلك هو الصحراء والرمال وامتدادات الملح الأبيض والرمال مرةً أخرى، مع سُحب الغبار التي تحوم فوقها. . . ويبدو الأمر وكأنه هيكل عظمي أبيض لمدينة يجسو على ركبته في عمق الرمال التي تذروها الرياح. . . خرجت ونزلت في شارع الأعمدة متوجهة إلى معبد الشمس - أو المدينة كلها، كما يجب أن أقول، لأنها كلها تقريبًا متضمنة داخل جدرانها الخارجية الهائلة.46
(الشكلان 9، 10، و 11)
بالفعل لم تندثر تدمر طي النسيان في الشرق الأوسط أبدًا، على الرغم من الآراء التي عبر عنها وود، وفي وقت سابق عام 1682، القنصل الفرنسي لوران دارفيو. فبعد الترحال في المنطقة، كتب الأخير أن مدينة تدمر كانت "مهجورة لعدة قرون"، مكررًا مرة أخرى فكرة أن الموقع كان "قديمًا جدًا لدرجة أنه يقال إنه كان في الحالة التي يُرى عليها الآن منذ زمن سليمان."47 وفي واقع الأمر، منذ آلاف السنين كانت تدمر بعد أيام مجدها موطنًا للمسيحيين واليهود والمسلمين.
زنوبيا، "الملكة الشهيرة"
استمر سكان مدينة تدمر في العيش داخل المدينة القديمة حتى بدأت أعمال التنقيب واسعة النطاق في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، بقيادة عالم الآثار الفرنسي هنري سيريج، الذي أعاد توطينهم قسرًا في قرية تدمر المبنية حديثًا، والتي اشتهرت فيما بعد بوجود سجن سيئ السمعة اقامه النظام السوري. وكانت إحدى العائلات النازحة هي عائلة عالم الآثار التدمُيري خالد الأسعد، الذي كان ارتباط طفولته بمنزله -الذي يقع على مقربة من مدخل معبد بل (الشكل 12) هو أساس تفانيه في جميع جوانب ثقافة تدمر، ليمتد إلى اهتمامه بتتبع الروابط العائلية لرجال القبائل المحليين.48
أُطلق على خالد الأسعد لقب مؤثر "الحفيد الشجاع للملكة زنوبيا" في تكريمٍ تذكاريٍ له.49 جاء إخلاصه لملكة تدمر المحاربة، التي سمى ابنته على اسمها، بعد قرون من الانبهار بزنوبيا في العالم العربي.50 فقد انعكست شهرتها في شبه الجزيرة العربية في القرن السادس في اسم اثنتين من زوجات النبي محمد وإحدى بناته، اللواتي كن يُدْعَيْنَ باسم زينب. ومع ذلك، يبدو أنها أصبحت شخصية أسطورية أكثر من كونها شخصية تاريخية كما فسرها رواة القصص العرب اللاحقون في سورية والعراق. في كتاب تاريخ الأمم والملوك، الذي كتبه الطبري في القرن العاشر، تحولت زنوبيا إلى الزبّاء، بنسب مختلف للغاية وخصومات بين رجال القبائل المحليين بخلاف الرومان، في سياق فوضوي قبل ظهور العالم الإسلامي.
ولاحقًا تم إحياء الاهتمام بزنوبيا في رواية زنوبيا للأديب سليم البستاني (1871)، وهي محاولة مبكرة لعمل رواية تاريخية بمزيج من الشخصيات الواقعية والخيالية. منذ ذلك الوقت، استحوذت زنوبيا على خيال العديد من الفنانين والكتاب العرب، وبلغت ذروتها في المسرحيةالموسيقية اللبنانية زنوبيا ، التي قُدمت في عامي 2007 و2008، إذ حصلت على شهرتها كقوة صامدة ضد قوى الإمبريالية وهي تغني، "أنا أول صرخات الحرية، الصرخة الأولى من أرضٍ عربية."51 ولا يمكن إنكار أن مدينة تدمر وبطلتها زنوبيا -المشهورتين بأدوارهما المؤثرة في تطور الحضارة الغربية- تتمتعان بمصير بارز، لكنه مختلف تمامًا، في وطنهما الشرق الأوسط.
كما عانت مدينة تدمر، المشهورة بجمال أنقاضها المرتفعة في بيئة صحراوية وأهميتها كمدينة للقوافل ومركز لتبادل الثقافات المتعددة -أيضًا، على الرغم من الدمار والغزوات- تاريخًا تقريبًا لم تنقطع حكاياته حتى يومنا هذا. فلم يكن الحفاظ على هذا التاريخ، كما لاحظ أندرياس شميدت كولينت، أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة لمنقبي أوائل القرن العشرين، ال الذين هدفوا إلى إزالة كل الآثار العائدة الى فترات ما بعد الاستيطان الروماني، ولا سيما في معبد بل. وفي حين أن هذا الأمر لم يكن ممارسة أثارية استثنائية في ذلك الوقت، إلا إنه يؤكد أن "إحياء معبد بل القديم في شكله الأصلي" منفصل عن تاريخه اللاحق ككنيسة ومسجد، وكذلك "كمركز ثقافي حيوي بالنسبة للسكان المحليين"، في هذه الحالة يُعد إنشاء رمز قوي للحضارة الغربية في الواقع، هدفًا سهلًا لمتطرفي تنظيم داعش.52 وقد أدى ذلك إلى قيام شميدت كولينت بالتساؤل عن مستقبل الموقع والاقتراحات المثيرة للجدل لإعادة بنائه، مع نداء للتأكيد على الرمزية الحقيقية للمعبد باعتباره رمزًا للتسامح، و"نموذجًا للتعايش الناجح وتوليفًا لثقافات متنوعة."53 وفي عالم اليوم، لم تكن هناك رسالة أكثر أهمية من اتباع هذا النموذج.